اربعون عاماً على اغتيال الشهيد العاشق "غسان كنفاني"
لا توجد كلمات بإمكانها أن ترثي شخصاً مثل غسان، إنهُ فلسطين وفلسطين هو !
محمود درويش في رثاء غسان كنفاني
اكتملت رؤياك، ولن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق.
ولم يكتمل حضورنا نحن الأحياء ـ طبقاً لكل الوثائق. نحن الأحياء مجازاً، وأنت الميت ـ طبقاً لكل الوثائق، أنت الميت مجازاً.
نحزنُ من أجلك؟ لا
نبكي من أجلك؟ لا
أخرجتنا من صف المشاهدين دفعة واحدة وصرنا نتشوف الفعل، ولا نفعل.
أعطيتنا القدرة على الحزن، وعلى الحقد، وعلى الانتساب. وكنا نتعاطى الحزن بالأقراص، ونتعاطى الحقد بالحقن، ونتعاطى الانتساب بالوراثة.
مرة واحدة، أعطيتنا القدرة على الاقتراب من أنفسنا، وعلى الرغبة في الدخول إلى جلودنا التي خرجنا منها دون أن ندري، الآن ندري ـ حين خرجت منا.
حملناك في كيس ووضعناك في جنازة بمصاحبة الأناشيد الرديئة، تماما كما حملنا الوطن في كيس، ووضعناه في جنازة لم تنته حتى الآن، وبمصاحبة الأناشيد الرديئة.
كم يشبهك الوطن!
وكم تشبه الوطن!
والموت دائما رفيق الجمال. جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم ـ أنت والوطن والموت ـ حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. وكنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي.
ـ أيها الفلسطينيون... إحذروا الموت الطبيعي!. هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني.
ـ ويا أيها الكتّاب... إرفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد! هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن.
لا يكون الفلسطيني فلسطينيا إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودوا من رحلتهم، لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن.
أهكذا؟. نعم هكذا ـ حين تزول الفوارق بين الأجساد وبين الأوطان ـ ويصير الكل في كيس واحد، تنزل العودة من الأناشيد الرديئة إلى البندقية الجيدة، ولا تكون الحياة مجازية.
وهكذا ـ تكون الهجرة شكلا محورا للعودة.
أمجد موتك؟ لا.
ألعن حياتك؟ لا.
إني أمجد السخرية التي كنت تواجه بها الحياة. نادر في تحايلك على الحياة. تنزفها تنزفها، لا حبا لها بل بحثا عنها. من خرج من عكا يوما ولم يعد، لا يعامل الحياة إلا بسخرية.
إني أمجد البسمة الكاذبة التي كنت تقابل بها الأشياء ـ وهي باطلة كلها ـ فمن عرف فلسطين تاب عن السعادة. وفلسطين التحمت بخلاياك. تبتسم لسواها كالعاشق المخدوع الذي يتحايل على الخيانة، ويحاول الهرب من قلبه.
لم تَكُنْ رَجُلاً
كنتَ إنسانيَّةً
ولم تحمل صليبا، كمتظاهر يحمل لافته وراية.
صليبك لا يراه أحد. حتى أنت لا تراه. لأنه يأتيك من الداخل. لأنه يسكنك، كما يسكن البرق المفاجأة، وكما يسكن الكون الديمومة.
كان الصليب ينتسب إليك.
وكان الوطن ينتسب إليك.
وهما البديلان الوحيدان.
ليس جمال الموت ما يجعلك جميلا، فبأي حق يستعيرك، ويتركنا بلا ندم؟
ليس جمال الموت، ولكنه حقيقة المأساة في لحم إنسان حقيقي وفنان حقيقي. الصدق اغتراب، فلماذا كنت مغتربا إلى هذا الحد؟ باعوا الضحية فاشتكت، فاجتمع الغزاة والطغاة على إخماد شكواها، لأن سلامتهم واحدة.
فلماذا ولدت في عكا؟ لماذا ارتكبت هذا الإثم!. جرب يا غسان واخرج من اسمها. ستخدعك الحياة من جديد. وتموت. تضيق بها ذرعا، ومن فرط العشق والغيرة تكرهها. ولكن، ماذا تكون من دونها! فلماذا ولدت في فلسطين؟ لماذا ارتكبت هذا الذنب؟.
جرب ـ يا غسان ـ جرب أن تذهب في هواها إلى آخر الشوط! ستخدعك الحياة من جديد. وتموت من جديد.
الابتعاد عنها ـ قاتل
والاقتراب منها ـ قاتل
وبين الاقتراب والابتعاد يتأرجح جسمك. الارتفاع يوازي الضياع. والنزول يحاذي الأفول.
وهذه هي المأساة.
وهذه هي قدرية العشق الفلسطيني.
لأن المعشوقة قاتلة بجمالها، ونسيانها، وقدرتها على الخيانة. تكتبها. ترسمها. تغنيها. تغامرها. وهي تنام في أذرعة الآخرين. وحين تقول: تعبت، تحاصرك كالجلد. ولعلك كنت تهددها، ولعلك كنت تؤنبها: حين أنام فيها سأرميها في البحر كقشرة برتقالة. لا تعطيك هذه الفرصة... لا تعطيك.
أكثر من عشرين عاما وأنت تنتظر هذه الفرصة. لا تعطيك. ويا غسان كنفاني. بالمناسبة، قل لي من أنت؟
غامض، وعاجز عن الإجابة، لأنك فلسطيني حقيقي. كلما اشتد وضوحك اشتد غموضك.
تنسى نفسك في البحث عن الوطن، وينساك الوطن في بحثك عن نفسك، ثم تلتقيان يومين في اليوم. في اليوم الواحد تلتقيان أمس وتلتقيان غدا.
وما الفرق بينكما؟. هو الفارق بين ظل الشجرة في الدم وبين ظل الشجرة في الماء.
فلسطيني حتى أطراف أصابعك، فلسطيني حتى الحماقة، وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.
تسلم على السائح، فتصيبه عدوى فلسطين، تقبل امرأة، فتصير مريم المجدلية.
تعانق طفلا فيستكمل طفولته في إحدى قصصك.
وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك.
من أنت؟ غامض وعاجز عن الإجابة. فكلما اشتد وضوحك اشتد غموضك.
لم تمتَشِق قلَماً...
لم تمتَشِق بندقيَّةً...
لم تمتَشِق إلا دمكْ. كان دمُكَ مكشوفاَ من قبل أن يُسفَكْ. ومنْ رآكَ رأى دَمَكْ. هوَ الوحيدُ الواضحُ. الوحيدُ الحقيقيُّ والوحيدُ العربيُّ. دقَّ سقفَ الهجرةِ وعادَ كالمطر الذي يهطل فجأة من سماء النُحاسِ على أرضِ القصدير. فهل سمعنا رنينهُ؟ هل سمعنا صداه؟ سمعناهُ يا غسان، فكيف نثأر له؟. وحين نقول فلسطين، فماذا نعني؟ هل فكَّرنا بهذا السؤال من قبل؟ الآن نعرفُ: أن تكون فلسطينيا معناه أن تعتاد الموت، أن تتعامل مع الموت... أن تُقدِّم طلب انتسابٍ الى دمِ غسان كنفاني. ليست أشلاؤك قطعا من اللحم المتطاير المحترق. هي عكا، وحيفا، والقدس، وطبريا، ويافا. طوبى للجسد الذي يتناثر مدنا. ولن يكون فلسطينيا من لا يضمُّ لحمه من أجل التئام الأشلاء من الريح، وسطوح منازل الجيران، وملفات التحقيق.
ماذا نفعلُ... ماذا نفعل من أجلك؟
هكذا تساءلنا. ونسينا أن نتساءل عمَّا نفعلُ من أجلِ ما تبقَّى ومن تبقَّى منَّا. وكنا نردُّ: نحرق مكاتبنا ونمضي... نمضي إلى أين؟ نمضي إليك... إلى الثورة. نُخرجها من رحم الفكرةِ والأحلام والأناشيد، لأن دمكَ قد خرج. الذاكرة والخارطة والأغاني لا تحوَل المنفى إلى وطن. ولم يبق لنا غير الإنتماء إلى الثورة وأخطائها. لا يكون العشق عشقا إلا إذا بلغ حد الخطأ. فلنذهب إلى الخطأ جميعاً، لأنه فاتحة الصواب. ولنملأ الأطر التي تركها غسان، حتى لا يكون وحيدا ولا يتيما ولا حزينا. لقد تحوَّل من شكلٍ إلى رؤيا. فلندخل مرحلة التَّحوُّل. وطوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة. لا تكفيه رصاصة! نسفوكَ، كما ينسفونَ جبهةً، وقاعدةً، وجبلاً، وعاصمة، وحاربوكَ، كما يحاربون جيشا...
لأنك رمز، وحضارة جرحٍ
ولماذا أنت... لماذا أنت؟
لأنَّ الوطن فيكَ صيرورة مستمرَّة وتحوُّلٌ دائمٌ، من سواد الخيمة حتى سواد النابالم. ومن التَّشَرُّدِ حتى المقاومة.
حقيقي وشفاف...
وابتكار لأنهار منحوتة مياهها من دماء مهاجرة. خريرها دائما محترق، يتمازج فيها ظل الزيتون الراحل بين الذاكرة والتراب. لو وضعوك في الجنة أو جهنم، لأشغلت سكانهما بقضية فلسطين.
وجدان، وعاطفة، ووسامة.
وعكا تنتمي إليك
ولأن غيابك يجعل الوطن أبعد، فعندما ينسفونك... ينسفون خطى تتقدم ـ هكذا يحسبون.
ويا غسان، حدد شكلك!
من طول الرحيل سقطت ذنوبي. ومن بعد الوطن اقتربت من الحقيقة. وشكلي ضائع فيكم.
وما اسمك الآن؟
لا شيء... لا شيء. تبعثر اسمي مع أشلائي. حين تعثرون على أشلائي تعثرون على اسمي. ولن تجدوها ما لم تجدوا وطني.
وأين وطنه؟
لا تقولوا أنه محتل.
هو ضائع فينا... ضائع فينا... ضائع فينا. فمن يخرج الوطن منا كي نراه؟ منّا نبدأ، فكيف نبدأ، ومتى نبدأ؟ إسألوا هذا السؤال من جديد. واذهبوا إلى إسم غسان كنفاني واسرقوه، أطلقوا اسمه على أي شيء وعلى كل شيء. أطلقوا اسمه عليكم واقتربوا من أنفسكم، من حقيقتكم، تقتربوا من الوطن.
ها هم يتبارون في رثائك، كأنك شيء ذاهبٌ. ولم يعرفوا أنك مذ رحلتَ أتيت. قادمٌ... قادمٌ من الريحِ ومنزل الجيران، وملفات التحقيق، ومن الصمت واستمراء الهزيمة ومناقبها.
هاهم أولاء يتبارون في رثائك، كأنهم يرثون فردا.
آه... من يرثي بركاناً!.
هذه لحظتكَ. فلا تجمع أشلاءكَ ولا تَعُدْ... لا تَعُدْ. لا تنتظرنا في المَهاجر. كان يجب أن نراك... أن نعرفك... أن نسير معك قبل اليوم. ولكن الموت لم ينضج فينا.
نُعزي أهلك؟ لا.
نعزي أنفسنا؟ لا.
نذهب إلى جبل الكرمل ونعزيه.
نذهب إلى شاطئ عكا ونعزيه.
نذهب إلى فلسطين ونعزيها.
هي المفجوعةُ. هي الثَّكلى.
نعزيها أم نهنِّئها؟ لا أدري.
فهي التي سترتب عظامكَ، هي التي ستعيد تكوينك من جديد. ونحن هنا، سنموت كثيرا. كثيرا نموت، إلى أن نصبحَ فلسطينيين حقيقيين، وعربا حقيقيين. ولكني أستأذنك الآن في البكاء قليلاً، فهل تأذن لي بالبكاء؟ هل تغفر لي؟.
أما كنت تحبني يوم كنت هناك؟