الحنين
الحنين مسامرة الغائب للغائب , و التفات البعيد إلى البعيد .
الحنين عطش النبع إلى حاملات الجرار, و العكس أيضا صحيح .
الحنين يجر المسافة وراء وراء , كأن التطلع إلى أمام, وقد سمي أملا ً, خاطرةٌ شعرية ومغامرة .
فعل المضارع حائر متردد, وفعل الماضي الناقص معلق على سروة وقفت خلف تلة ,على ساقها الراسخة , والتفت بأخضرها الداكن , وأرهفت السمع إلى صوت واحد : صوت الريح . الحنين هو صوت الريح .
وكلما توغلت في وحدتك , كتلك الشجرة,أخذك الحنين برفق أمومي إلى بلده المصنوع من مواد شفافة هشة ,
فللحنين بلد و عائلة و ذوق رفيع في تصفيف الأزهار البرية .
وله زمن منتقىً برعاية إلهية , زمن أسطوري هادئ ينضج فيه التين على مهل , وينام فيه الظبي إلى جانب الذئب في خيال الولد الذي لم يشاهد المذبحة .
ويطوف بك الحنين, كدليل جنة سياحي, في أنحاء بلاده, ويصعد بك إلى جبل كنت تأوي إليه و تتمرغ في النباتات البرية , حتى تتشرب مسام جلدك برائحة المريمية . الحنين هو الرائحة .
و للحنين فصل مدلل هو الشتاء.
يولد من قطرات الماء الأولى على عشب يابس , فيصعد زفرات استغانة أنثوية, عطشى إلى البلل ,
وعدٌ بزفاف كوني هو المطر. وعد بانفتاح المغلق على الجوهر, وحلول المطلق في ماهيّاتٍ....
هو المطر.
كم من سنديانة هناك تشرئب إلى اثنين :أنتَ و هي ,
تركضان تحت المطر , بلا مظلة و بلا قبعة, سعيدين بفضيحة شريفة, سعيدين بنصف عُري .
تركضان
ولا تعرفان إلى أين , متحرّرين من الطريق و من الهدف .
تلهثان معا من تعب لذيذ السبب. وتندسَّان في جوف سنديانة ضيق لا يتسع إلا لواحد. فتلتصق بك و تلتصق بها حتى تصيرا اثنين في واحد . و تعتصرك و تعتصرها فيسخن الماء عليكما وفيكما و تلهثان من الدفء, ولا تحتاج الشهوة إلى ذريعة المطر الذي أدخلكما ألى مخدع السنديانة و انصرف. الحنين هو اختلاط النار بالماء.
و للحمى صفة أخرى هي الحنين . في كل شتاء يوجعك فرح غائب،وتمشي تحت المطر واحداً في اثنين :أنت و من كُنْتَه في شتاء أخر ، فتفتفت إلى نفسك كلاما لا تفهمه لعجز الذاكرة عن استعادة العاطفة السالفة ، ولقدرة الحنين على إضفاء مالم يكن على ماكان ، كأن تصبح الشجرة غابة، و الجحر حجلة ، و كأن تكون سعيدا في زنزانة تراها أوسع من حديقة عامة ،وكأن يكون الماضي واقفا في انتظارك غدا ككلب وفي.
الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب لأنه يكذب بصدق .
كذب الحنين مهنة .و الحنين شاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات .
وعجوز مازال يحبو لأنه نسي حركة الزمان و تحاشي النظر في المرآة .الحنين هو التزوير البريء للوثائق لحماية مرجعية المنفيّ من الصدأ . وهو الكلس الضروري لتلميع البيوت المهجورة.
لكن أحدا لايحن إلى وجع أو هلع أو جنازة . الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد,وترميم شباك سقط دون أن يصل سقوطه إلى الشارع.
و الحنين قصاص المنفى من المنفيّ، وخجل المنفي ّ من الإعجاب بموسيقى منفى و حدائق....
فأن تحنَّ يعني أن لا تغتبط بشيء, هنا , إلا على استحياء .
لو كنت هناك – تقول – لو كنت هناك لكانت ضحكتي أعلى و كلامي أوضح.
فالحنين هو توق الكلمات إلى حيزها الأول حتى لو كانت غامضة و غريبة عن الجماعة .
لكنني – تقول لنفسك – أوثر الاغتراب في المنفى على الاغتراب في البيت, ففي المنفى مايوجب ذلك.
لذلك تحن في الزحام إلى نفسك ، إلى خلوة للكتابة .
الكتابة اقتراب و اغتراب ويتبادلان الماضي و الحاضر.
ظمأ الكلمات إلى ماء يلمع في سراب الأسطورة, و انقلاب التشبيه على المشبه, وتمويه الواقع بالصورة , بيدي الحنين الحريريتين تروض المسافة ....
إذا تسقف سماءك بكواكب مستعارة , و تمضي مع امرأة أخرى , حقيقية , إلى غرفة دافئة , معافى من أسباب الحمى , و من أنين متقطع لايكتم . فلصوت المطر على الزجاج هياج الرغبة.
ليس أكثر من هذا ليبزغ الضوء من ليل الجسد: سريرك سرك /ماضيك يأتي غدا/ على نجمة لاتصيب الندى/ بأذى .
تلقي برأسك على ركبتيها لتسمع إلى مايقول الجسد الخالي من الحنين , فقد خلقت حواء للتو , و للتو ولدتَ بلا ذاكرة .
أنتِ غدي وحاضري و لا أمس لي – تقول لها.
وتقول لك: أنتَ غدي و حاضري ولا أمس لي.
تنامان غثنين في واحد , و لا تحلمان بما هو أكثر من هذا.
لم يسأل أحد منكما الآخر عن معنى الاسم, من شدة ما كان مجهولكما الشهي عاكفا على تأجيج الفتنة .
تفتنك و تفتنها .
وبعد أن تمتلكها و تمتلكك , و تمتلئ بها و تمتلئ بك , يناديك ما يناديها من أقاليم البعيد , فتحنّ هي إلى ماضيها خلف الباب , وإلى أغنية غير أٌغنيتك /
الحنين إلى البداية, إلى الطريقة التي تمَّ بها إيلاج المفتاح في قفل الباب .
وإخفاء النظرة عن غايتها.
و إختيار المقعد و موسيقى الليل بعفوية مُتَمَرَّسة – وهو التمرين العاطفي على جس نبض الكون.
وهو , أي ذاك الحنين , استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية : الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة .
هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة , ولا يولد من الجرح .
فليس الحنين ذكرى ، بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة .
الحنين انتقائي كبستاني ماهر ، و هو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب. و للحنين أعراض جانبية من بينها :
إدمان الخيال النظر إلى الوراء , و الحرج من رفع الكلفة مع الممكن ، و الإفراط في تحويل الحاضر إلى ماض ،
حتى في الحب : تعالي معي لنصنع الليلة ماضياً مشتركاً- يقول المريض بالحنين .
سآتي معك لنصنع غداً مشتركاً- تقول المصابة بالحبّ.
هي لا تحب الماضي و تريد نسيان الحرب التي انتهت . وهو يخاف الغد لأن الحرب لم تنته . ولأنه لا يريد أن يكبر أكثر .
الحنين ندبة في القلب ، و بصمة بلد على جسد . لكن لا أحد يحن إلى جرحه ، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل يحن إلى ماقبله, إلى زمان لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي, إلى زمان فردوسي الصورة . و الحنين نداء الناي للناي لترميم الجهة التي كسرتها حوافز الخيل في حملة عسكرية. هو المرض المتقطع الذي لا يعدي ولا يميت ، حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمعي .
هو دعوة للسهر مع الوحيد , و ذريعة العجر عن المساواة مع ركاب قطار يعرفون عناوينهم جيدا . و هو مايجمع لأحلام الغرباء من مواد مصنوعة من شفافية اللاشيء الجميل ، و يُحمِّص لهم بُنَّ اليقظة .
ونادرا مايأتي صباحا.
ونادرا ما يتدخل في حديث عابر مع سائق تاكسي .
ونادرا مايتطفل على قاعة المؤتمر , أو على الموعد الأول بين أنثى و ذكر ....
هو زائر المساء, حين نبحث عن آثارك في ماحولك ولا تجدها ، حين يحط على الشرف دوريٌّ يبدو لك رسالة من بلد لم تحبه وأنت فيه ، كما تحبه الآن و هو فيه .
كان معطىً و شجرة و صخرة ، وصار عناوين روح و فكرة ، و جمرةً في اللغة .
كان هواء و تراباً و ماءً ، و صار إلى قصيدة.
الحنين أنين الحق العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية ....
أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات , يورثه الغائب للغائب، و الحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الأولى ، في المهاجر و المخيمات .
الحنين صوت الحرير الصاعد من التوت إلى من يحن إليه في أنين متبادل .
هو اندماج الغريزة بالوعي و باللاوعي ...
وشكوى الزمن المفقود من سادية الحاضر.
الحنين وجع لا يحن إلى وجع . هو الوجع الذي يسبه الهواء النقي القادم من أعالي جبال البعيد, وجع البحث عن فرح سابق .
لكنه وجع من نوع صحي ، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل ...
و عاطفيون !
محمود درويش | في حضرة الغياب