الجمعة، 23 نوفمبر 2012

عبثيّة العالم وفراغ الأشياء (على هامش سيوران)


إذا ضاقت بك الأمور إلى أقصى حدّ ممكن، إذا تدهورت أوضاعك إلى درجة تنذر بالخطر، إذا وصلت إلى حالة ليس فقط يرثى لها وإنّما يؤسف عليها، فإنّي أنصحك وأنصح نفسي بالتوّجه إلى عيادة الدّكتور سيوران. ففيها من الوصفات الجاهزة ما يكفي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، هذا إذا ما بقي شيء لكي ينقذ أصلا. فالدّكتور سيوران مختص بالأمراض العصبيّة والحالات السّوداويّة الأكثر قتامة. إنّه يعطيك نصائح ليس فقط لكي تعرف كيف تواجه المصائب المنهالة عليك من كلّ حدب وصوب، وإنّما لكي تفرح بها، لكي تشتهيها، لكي تلقي بنفسك في أحضانها حتّى قبل أنّ تحصل: وداوني بالتي كانت هي الدّاء!

وكما أنّ الطبيب يعطيك نصائح ضدّ الزّكام أو السلّ أو الكوليرا عن طريق ضخّ بعض جراثيم هذه الأمراض في جسمك، فإنّ الفيلسوف الرّوماني أميل سيوران من كثرة ما يضخ في روحك من أنواع التشاؤم والنّحيب والنعيب يجعلك فعلا محصنا ضد السوداويّة وربّما الانتحار. بل وتصبح قادرا على أن تتقبّل أي محنة حتّى ولو كانت بحجم الكارثة التاريخيّة: كارثة الشّعب السّوري مثلا. ماذا تريد أكثر من ذلك؟


أمّا إذا كنت سعيدا، فرحا، لا ترى الحياة إلا بلون وردي، فلا داعي بالطّبع لأن تقرأ سيوران. إذا كنت لا تفهم عبثيّة الوجود، أو معنى الحسّ التراجيدي في الوجود، فلا تقترب منه أبدا. فهو لم يخلق لك لحسن الحظ.

يقال بأنّ عشرات الشّباب الفرنسيين أقلعوا عن الانتحار بمجرّد أن قرؤوا كتبه. ذلك أنّهم قالوا بينهم وبين أنفسهم: إذا كان هذا الشّخص السوداوي المتطرّف قد عاش كلّ هذه التّجارب المرعبة، إذا كان قد نزل إلى الدّرك الأسفل، ومع ذلك لا يزال على قيد الحياة، فهذا يعني أنّ مشكلتنا بسيطة ولا تستحقّ الذّكر إذا كان شخص "إرهابيّ" من هذا النّوع لم ينتحر، فلماذا ننتحر نحن؟

وفي إحدى المرّات اتّصلت به زوجة صديقه وهي تصرخ: دخيلك عجّل يريد أن ينتحر! فقال له: لا تفعلها يا حمار انتظر فقط عشر دقائق حتّى أقطع حديقة اللكسمبورغ وأصل إليك. سوف أعطيك جرعة تشاؤم مكثّفة تشفيك إلى الأبد. ولكن الأخير لم يستطع أن ينتظر حتّى ثلاث دقائق فرمى بنفسه من الطابق العاشر في إحدى بنايات المونبارناس… هنا لم تنفع كلّ علاجات الدكتور سيوران… ما كلّ مرّة تسلم الجرّة…

لكن من هو سيوران هذا؟ إنّه كاتب روماني الأصل وصل إلى باريس قبيل الحرب العالميّة الثّانية ولم يبرحها منذ ذلك الوقت وحتّى يومنا هذا، أو بالأحرى حتى سنوات قليلة حيث وافته المنيّة بعد أن ناهز الرّابعة والثمانين عاما. من كان يتخيّل أنّ شخصا موحشا من هذا النّوع يمكن أن يعيش كلّ هذا العمر؟ وطيلة كلّ تلك الفترة ما انفك يلعن الحياة، واليوم الذي ولد فيه، والسّاعة التي خلق فيها، ويمجّد الجنون والعبث والانتحار. ومع ذلك فلم يحصل له أي شيء من هذا القبيل. أنا واثق لو أنّ سيوران كان يحبّ الحياة ويحرص عليها لما عاش كلّ هذا العمر المديد. كانت يد المنون قد اخترمته وهو في عزّ الشباب أو قل في الأربعينات والخمسينات على أكثر تقدير. ولكن بما أنّه أظهر كرهه لها منذ البداية، وأدار ظهره لها، وأعلن عزوفه عنها، بل واشمئزازه منها، فانّها أقبلت عليه وتشبثت به ولم تعد تعرف كيف تتركه!هل يعني ذلك أنّ الحياة تشبه المرأة؟ هذا ما يعتقده البعض. ولهذا السّبب غيّر أحدهم استراتيجيته تجاه السيّدات مؤخّرا. فقد حرق قلب إحداهنّ حرقا من كثرة الإهمال واللامبالاة وهو في الدّاخل يكاد يغلي غليانا من أجلها. كيف توصّل صاحبنا إلى كل هذا الخبث والعمق الفلسفي؟ الله أعلم.

في عام 1947 قرّر سيوران أن ينتحر لغويّا: أي أن يتخلى عن لغته الرّومانيّة نهائيّا، ويكتب بالفرنسيّة. قرّر أن يتخلّى عن لغة أمّه وطفولته وليالي الشّتاء الطويلة. قرّر أن يتخلّى عن لغة الحكايات القديمة، هناك في قرية معلقة على سفوح الجبال في رومانيا: هناك حيث الوديان السّحيقة والشّمس الذّهبيّة، هناك حيث كتل الضّباب والعطر الإلهي… وكان قرارا خطيرا لا يجرؤ عليه إلّا المجانين: أي الأشخاص المهووسين بالتّجارب القصوى والحدية المرعبة يقول:"عشرات السّجائر وفناجين القّهوة كانت لازمة يوميّا لكي أكتب جملة واحدة صحيحة في هذه اللغة الصّعبة جدّا أو النبيلة أكثر من اللزوم بالنسبة إلي"…

ذلك أن تغيير اللغة أمر لا يكاد يصدّق، وبخاصّة بالنسبة إلى الكتّاب بالمعنى الأدبي والجمالي للكلمة. عالم الاقتصاد يمكن أن يغيّر لغته من دون أيّ مشكلة، وكذلك عالم الاجتماع أو السّياسة أو الفيزياء والكيمياء الخ… أمّا الشّاعر، أمّا الأديب، أمّا الفنّان، فكيف يمكن أن يغيّر لغته دون أن ينتحر؟ كيف يمكن أن ينفصل عن لغته الأم: لغة الطفولة والشّباب الأوّل؟ أليست متسربة في شرايينه، في دورته الدمويّة، في الأعماق والأقاصي؟ يضاف إلى ذلك أنّ اللغة أو "الكتابة هي عمل من أعمال التّضامن التّاريخي" كما يقول رولان بارت. بمجرّد أن تكتب بلغة ما فإنّك تندرج غصبا عنك في تاريخ ما، في تضامن ما، في عصبيّة ما، سواء أكنت واعيا بذلك أم لا. هناك خيانة لغويّة مثلما أنّ هناك خيانة قوميّة أو وطنيّة. أكاد أقول بأنّ تغيير اللغة أصعب من تغيير الدّين. فإذا ما كتبت باللغة العربيّة فإنّك تندرج داخل تراث طويل عريض من الكتابة النثريّة أو الشعريّة عرفت أم لم تعرف. ما إن تكتب بلغة الضاد حتّى تجد وراءك الشّعر الجاهلي والقرآن الكريم والجاحظ والمتنبي والتوحيدي والمعري وابن زيدون وطه حسين وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وحتّى نزار قبّاني وبدر شاكر السيّاب… وما إن تكتب بالفرنسيّة حتّى تجد وراءك بشكل إجباري فولتير وروسو وفيكتور هيغو وبلزاك وستندال وفلوبير وبودلير وجان بول سارتر وألبير كامو ورينيه شار…هناك زخم تاريخي يهدر كالشلال من الأول إلى الآخر… وبارت نفسه من شدّة شغفه بالفرنسيّة لم يكن يعرف إلا هي. كان يرفض أن يشرك بها شيئا. كانت أكثر من لغة: كانت العشيقة الغالية. ذلك أنّ علاقة الفنّان باللغة هي علاقة عشق، ومضاجعة، وغرام طويل عريض. إنّها علاقة "مرضية" بالمعنى الحرفي للكلمة. الكاتب مريض باللّغة مثلما هو مريض بالمرأة. أقصد الكاتب بالمعنى المهووس والحقيقي للكلمة وليس الكتابة بلا لون ولا طعم ولا رائحة… فلوبير كان يقضي أسبوعا كاملا لتغيير جملة في سطر، أو حتّى كلمة في جملة. وكان يتأفّف ويتأوّه ويتقلب ذات اليمين وذات الشمال كحامل تريد أن تضع. ولهذا السّبب فإنّ سيوران يعتبر أنّ "المرضى الكبار" هم وحدهم الكتاب الكبار. ينبغي أن تكون مريضا بالفعل لكي تصبح كاتبا حقيقيّا. إذا لم تكن مصابا بجرثومة الفكر أو فيروس الأدب فلا داعي لأن تكتب. وأمّا الآخرون فليسوا إلا كتابا من الدّرجة الثّانية أو الثّالثة أو العاشرة، أي لا يعتد بهم على الإطلاق. ألم يكن دوستيوفسكي مريضا؟ وهل هناك كاتب في العالم أكثر مرضا من دوستيوفسكي؟ ونيتشه، ألم تكن كل علل الأرض موجودة فيه؟ وهل يمكن اعتبار بودلير صحيحا معافى؟ والقائمة طويلة… وإذن فكلّ عبقري مريض، ولكن ليس كل مريض عبقريا.أو قل بأنّ العبقري شخص مهووس بشيء ما على عكس النّاس العاديين، شيء لا يعرف حتّى هو بالذات كنهه أو مصدره. وربّما لو عرف لتوقّف فورا عن الكتابة. وبسبب هذا الهوس الخلاق تتطوّر لديه ملكة المبالغة في التّخييل أو العمق في التفكير. ويصبح عندئذ قادرا على أن يرى ما لا يراه الآخرون، أو يعبر عمّا لا يستطيع الآخرون التعبير عنه. وربّما كان يتواصل مع العالم الآخر أو يسمع أصواتا مجهولة كسقراط. بسبب ذلك، أو بفضل ذلك، تنفتح أمامه دهاليز وعوالم مخبوءة. تنفتح آفاق شاسعة ومساحات على مدّ البصر…

كيف أصبح سيوران كاتبا عميقا؟ ما الجرح الذي عضه ونخر فيه؟ ما جرثومة الكتابة التي أصابته؟ ما سرّ كل هذا العمق التشاؤمي الذي يتجاوز المعري بل وحتى شوبنهاور بمسافات؟ إنّها حادثة بسيطة وغير متوقعة على الإطلاق. يقول ما معناه: "في حوالي العشرين من عمري حصلت أكبر مأساة في حياتي. وقد استمرت سنوات عديدة وتركت بصماتها علي إلى الأبد. كلّ ما كتبته، كل ما فكرت فيه، كل ما أنجزته، كل خواطري وهلوساتي تعود إلى تلك الفترة. الشيء الذي حصل هو التالي، بكلّ بساطة لقد فقدت فجأة القدرة على النوم. لم أعد أستطيع أن أنام لحظة واحدة. أصبحت صاحيا طيلة الوقت. هل يمكن أن تتخيّلوا ذلك؟ هل يمكن أن تتخيّلوا شخصا صاحيا أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة؟ ففي الوقت الذي كانت تنام فيه المدينة كلّها، كنت أنا الشّخص الوحيد الذي لا ينام. وهكذا كنت أخرج كلّ يوم في منتصف الليل وأتجوّل في الشوارع الخالية إلا من القطط وبعض المومسات. وكنت أتسكّع وأتسكّع طيلة الليل وحتّى أولى خيوط الفجر. ثم أعود إلى البيت لا لكي أنام- معاذ الله - وإنّما لكي أتناول فطور الصّباح كبقيّة الذين ناموا طيلة الليل. في ذلك الوقت ألفت كتابي الأول:على قمم اليأس (بالرومانية طبعا). وقد سجلت فيه تجربتي الرّهيبة هذه وصدمة الحياة. وكان بمثابة وصيّتي الأخيرة لأنّي ما كنت أعتقد أني سأعيش بعده. كنت أعتقد أني سأنتحر لا محالة. إذ كيف يمكن أن تعيش مدى الحياة دون نوم؟ ولكن يد القدر شاءت لي أن أعيش…".

هكذا نلاحظ أنّ كل كاتب حقيقي وراءه مشكلة معينة، وراءه جرح ما. قد تختلف نوعيّة هذا الجرح من كاتب لآخر ولكن تبقى الحقيقة واحدة: وهي أنّ الكتابة تعويض عن فقدان العالم، عن تجويف ينخر في أحشاء العالم، عن ضربة غدر حصلت يوما ما دون أيّ توقّع أو سابق إنذار. الكتابة هي محاولة مستميتة للتّصالح مع العالم، لردم الهوّة السّحيقة بينك وبين العالم (أو بينك وبين نفسك، لا فرق). منذ ذلك الوقت أحس سيوران بأنّه لا يمكن أن يعطي ثقته للعالم، أنّه مدعو للارتياب بتلافيف العالم. منذ ذلك اليوم سقطت براءات سيوران إلى الأبد. ثم توالت الضّربات والخيبات حتّى لم يعد هناك من محل لضربة جديدة.

وهكذا تغلّب شوبنهاور ونيتشه لديه على كانط وهيغل وكل فلاسفة العقلانيّة الفلسفيّة والإيمان بمستقبل البشريّة. لهذا السّبب أصبح سيوران أكبر كاتب متشائم في العصور الحديثة حتّى يضرب به المثل. هكذا تغلبت الصّورة السلبيّة للحياة عنده على الصّورة الايجابية، أو القوى الهابطة على القوى الصاعدة. قد يكون مخطئا سيوران في تشاؤمه الأسود إلى هذا الحد. قد يكون مخطئا في استهزائه بفكرة التقدّم وإمكانيّة تحسين الوضع البشري وبناء الحضارات. وهو في رأيي مخطئ دون شك. وأنا لست من أتباعه على عكس ما قد يوحي به هذا المقال. ولكن ماذا نفعل إذا كانت الحياة قد "عضته" أكثر ممّا يجب، فأصبح يرتاب بها كالأفعى، ولم يعد يأمن جانبها على الاطلاق:

يا أم دفر لحاك الله والدة

فيك العناء وفيك الهم والسرف

لو أنك العرس أوقعت الطلاق بها

لكنك الأم مال عنك منصرف

(المعري)

والغريب العجيب هو أنّ سيوران شخص طيّب في الحياة العادية، وليس شرّيرا على الاطلاق بعكس ما توحي كتبه وأفكاره. ولكنّه لا يستطيع أن يثق بالطبيعة البشريّة بعد الآن. لقد جرح سيوران يوما ما أكثر ممّا يجب، فمن سيعيد الثقة إلى سيوران؟

لكي نعطي فكرة عن الوصفات الطبية الجاهزة للدكتور سيوران يكفي أن نستعرض بعض عناوين كتبه: "خلاصة في التفكك والانحلال"، أي كيف يتفكك الإنسان من الدّاخل عضوا عضوا، وينتهي ويرتاح. 

أو: مساويء أن تولد: أي المساويء المترتبة على مجرّد مجيئك إلى هذا العالم المخزي المليء بالعضات والخيبات وضربات الغدر. أو "على قمم اليأس" كما ذكرنا سابقا، أي كيف يمكن أن يصل بك اليأس إلى أقصى حدّ ممكن، إلى حدّ لم يعد فيه لليأس من معنى، وفوائد ذلك في تصفية الرّوح من الدّاخل أو حتّى تصفيتك من الخارج، وهو الأفضل… كل كاتب لم يتجرّع كأس اليأس حتّى الثّمالة ليس له أيّ مستقبل: ليذهب ويشتغل شغلة أخرى غير الكتابة. وهذا يشبه ما قاله ديستيوفسكي يوما ما كردّ على كاتب شاب جاء يسأله: كيف يصبح المرء كاتبا كبيرا؟ فأجابه: أن يتعذب، أن يتعذب، أن يتعذب. كرّرها ثلاث مرّات. وهذا يشبه ما قاله ريلكه: "ينبغي أن تموت ألف مرّة لكي تكتب حرفا واحدا". ينبغي أن تنزل إلى دهاليز لم تطأها قدم قط…

لا يعادل إحساس سيوران بالمرارة وفراغ الوجود إلّا إحساس العدميين الفرنسيين الآخرين من أمثال آداموف، ويونيسكو، وصموئيل بيكيت: أي كل ما يدعى بأدب العبث واللامعقول. بل إنّه يتفوّق عليهم من حيث السوداويّة المطلقة أو المطبقة التي لا تترك أي مجال لشعاع النّور وفسحة الأمل. وهذا ما يخيفني فيه ويجعلني أتحاشاه بل وأكرهه لأني أشبهه أكثر مما يجب- ربما حتى من الناحية الشكلية. وبما أنّي أكره حالي فإنّي أكرهه هو أيضا. على عكس ما قد يتوهم قارئ هذا المقال فإنّي أكتبه فقط لكي أتخلّص منه… أقول ذلك على الرّغم من اعترافي بفعالية منهجيته على الصّعيد السّيكولوجي.

على الرّغم من أنّ بيكيت كان يعتقد في قرارة نفسه بأنّ "غودو" المنقذ لن يجيء إلّا أنّه ترك علامة الاستفهام مفتوحة. أمّا سيوران فقد أغلق كلّ علامات الاستفهام مرّة واحدة وإلى الأبد. فلا غودو ولا من يحزنون… والحال أنّ الموضوع الوحيد الذي لا يمل سيوران من سماعه وتكراره هو التالي: فراغ العالم، هشاشة الأشياء، عبثيّة الوجود بما هو موجود، لا جدوى العمر، خصوصا عمره هو: "لن أغفر لنفسي أبدا أنّي ولدت. يا له من شؤم ما بعده شؤم. الله يلعن تلك السّاعة! ". ذلك أنّ سيوران يشعر شعورا عميقا بلا جدواه في هذه الحياة، بهامشيته المروّعة، بعدم قدرته على التأقلم مع أيّ نظام اجتماعي كان. يشعر بأنّه عالة على نفسه وعلى الآخرين في آن معا: "وحدها مومس بلا زبائن أقل فائدة مني"! فمتى سيجيء هذا الحدث الأعظم، هذا الموت العذب، لكي يلقي سلاحه ويرتاح؟

عندما يموت صديق لسيوران فإنّه لا "يزعل" عليه وإنّما يحسده. بل ويكاد يكرهه لأنّه حظي بهذه "النعمة" دونه. وبما أنّ معظم أصدقائه، بمن فيهم صموئيل بيكيت، قد ماتوا قبله فإنّه يرى في ذلك نوعا من الخيانة أو الغدر أو الحظ الذي يفوق الوصف (حظهم هم بالطبع).

إيّاك ثم إيّاك أن تزعج سيوران في وحدته الشّاسعة كأن تتحدّث له عن الحب مثلا! لأنّه قد يجحظ فيك عندئذ جحظة مخيفة، وربّما فغر فاه ورسم علامة استفهام غريبة الشّكل. ربّما شكّ في سلامة قواك العقلية والنقلية. هذا إذا لم ينصح بتحويلك إلى مستشفى الأمراض النفسيّة فورا. وهو في كلّ الأحوال سوف يرى فيك شخصا معتوها لا ينفع معه أي تقويم أو علاج. وربّما اعتقد أنّك تنتمي إلى عصور غابرة أو أحقاب جيولوجية منقرضة: أي إلى فئة المستحاثات بشكل خاص.

بإمكانك أن تتحدّث مع سيوران إلى ما لانهاية عن الشّؤون العربيّة: أي عن التفكك والانحلال، وانحطاط الانحطاط. وربّما أعطاك بعض النّصائح المفيدة لكي تتدهور الأمور أكثر فأكثر وتنهار السّقوف والجدران فلا تبقى حجرة على حجرة. وعندئذ بإمكانك أن تستمتع معه بمشهد هذا الخراب العظيم الممتد من المحيط إلى الخليج. فعلى أنقاضه سوف ينهض المستقبل من نقطة الصفر. أهلا بالأنقاض والحرائق! أهلا بالكوارث والنكبات!

الأرض للطوفان مشتاقة

لعلّها من درن تغسل

(المعري)

أخيرا: إيّاك ثم إيّاك أن تتحدّث مع سيوران عن الزّواج أو العائلة والانجاب لأنّه عندئذ قد يحملق فيك حملقة مفزعة تكاد تخسف الارض من تحت قدميك.هذا إذا لم يضربك بعصاه مباشرة. فهو لا يمكن أن يسكت على إهانة كهذه. وربّما اعتبرك جاسوسا مدسوسا عليه بشكل مجاني. فهو يعتبر الانجاب أكبر جريمة على وجه الأرض. من هنا سرّ إعجابه بالمعرّي الذي يرى فيه أعظم شخصيّة فكريّة - أدبيّة أنجبها تاريخ العرب:

"هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد"!
بقلم : هاشم صالح

IP