الثلاثاء، 15 أكتوبر 2013

ورقة من غزة - رسالة من رسائل غسان كنفاني في ذكرى ميلاده

عزيزي مصطفى:
تسلمت رسالتك الآن ، و فيها تخبرني أنك أتممت لي كل ما أحتاج إليه ليدعم إقامتي معك في جامعة "كاليفورنيا" .
لابد لي يا صديقي من شكرك ، لكن ، يبدو لك غريباً بعض الشيء أن أحمل إليك هذا النبأ. وثق يا مصطفى أنني لا أشعر بالتردد أبداً ، بل أكاد أجزم أنني لم أر الأمور بهذا الوضوح أكثر مني الساعة .لا يا صديقي .. لقد غيرت رأيي ، فأنا لن أتبعك إلى حيث "الخضرة والماء والوجه الحسن " كما كتبت ، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبداً.
عندما أخذتُ إجازتي في حزيران ، وجمعت كل ما أملك توقاً إلى الإنطلاقة الحلوة، وإلى هذه الأشياء الصغيرة التي تعطي الحياة معنى لطيفاً ملوناً ،وجدت غزة كما تعهدها تماماً ،بأزقتها الضيقة ، ذات الرائحة الخاصة ،وبيوتها ذوات المشارف الناتئة. هذه غزة , لكن ما هذه الأمور الغامضة، غير المحددة ،التي تجذب الإنسان إلى أهله، لبيته، لذكرياته ،كما تجذب النبعة قطيعاً ضالاً من الوعول؟ لا أعرف. كل الذي أعرف أنني ذهبت إلى أمي في دارنا ذلك الصباح .وهناك قابلتني زوجة أخي المرحوم ساعة وصولي .وطلبت إلي وهي تبكي، أن ألبي رغبة نادية ابنتها الجريحة في مستشفى غزة، فأزورها ذلك المساء.أنت تعرف نادية ابنة أخي الجميلة ذات الأعوام الثلاثة عشر.
في ذلك المساء اشتريتُ رطلاً من التفاح، ويممتُ شطر المستشفى أزور نادية .كنت أعرف أن في الأمر شيئاً أخفته عني أمي وزوجة أخي، شيئاً لم تستطيعا أن تقولاه بألسنتهما ، شيئاً عجيباً لم أستطع أن أحدد أطرافه البتة .لقد اعتدتُ أن أحب نادية. اعتدت أن أحب كل ذلك الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد إلى حد حسب فيه أن الحياة السعيدة ضرب من الشذوذ الاجتماعي.
ماذا حدث في تلك الساعة؟ لا أدري.
لقد دخلت الغرفة البيضاء بهدوء جم.إن الطفل المريض يكتسب شيئا من القداسة، فكيف إذا كان الطفل مريضاً إثر جراح قاسية مؤلمة؟
كانت نادية مستلقية على فراشها،وظهرها معتمد على مسند أبيض انتثر عليه شعرها كفروة ثمينة.كان في عينيها الواسعتين صمت عميق، ودمعة هي أبداً في قاع بؤبئها الأسود البعيد، وكان وجهها هادئاً ساكناً، لكنه موحٍ كوجه نبي معذب.
مازالت نادية طفلة..لكنها تبدو أكثر من طفلة، أكثر بكثير، وأكبر من طفلة ، أكبر بكثير.
نادية!
لا أدري ، أأنا الذي قلتها، أم إنسان آخر خلفي؟ لكنها رفعت عينيها نحوي ، وشعرت بهما تذيباني كقطعة من السكر سقطت في كوب شاي ساخن.ومع بسمتها الخفيفة سمعت صوتها:
-عمي! وصلت من الكويت!
وتكسر صوتها في حنجرتها، ورفعت نفسها متكئة على كفيها،ومدت عنقها نحوي، فربت على ظهرها، وجلست قربها:
-نادية! لقد أحضرت لكِ هدايا من الكويت، هدايا كثيرة ،سأنتظرك إلى حين تنهضين من فراشك سالمة معافاة، وتأتين داري فأسلمك إياها.ولقد اشتريت لك البنطال الأحمر الذي أرسلت تطلبينه مني.نعم..لقد اشتريته.
كانت كذبة ولدها الموقف المتوتر.وشعرت وأنا ألفظها كأنني أتكلم الحقيقة أول مرة.أما نادية فقد ارتعشت كمن مسه تيار صاعق.وطأطأت رأسها بهدوء رهيب، وأحسست دمعها يبلل ظاهر كفي:
-قولي يا نادية..ألا تحبين البنطال الأحمر؟
ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم.لكنها كفت، وشدت على أسنانها.وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد:
يا عمي !
ومدت كفها، فرفعت بأصبعها الغطاء الأبيض ، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ..
يا صديقي !
لن أنسى أبداً ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ.لا ، ولن أنسى الحزن الذي جلل وجهها، والدمع في تقاطيعه الحلوة ،إلى الأبد.لقد خرجت يومئذ من المستشفى إلى شوارع غزة وأنا أشد باحتقار صارخ على "الجنيهين" اللذين أحضرتهما معي لأعطي نادية إياهما.كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم.كانت غزة، يا مصطفى، جديدة كل الجدة.لم نرها هكذا قط أنا وأنت .غزة هذه التي عشنا فيها، ومع رجالها الطيبين، سبع سنوات في النكبة كانت شيئاً جديداً. كانت تلوح لي أنها بداية .. فقط لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بداية فقط.كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي الذي أسير فيه عائداً إلى داري لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل يصل إلى صفد.كل شيء كان في غزة هذه ينتفض حزنا على ساق نادية المبتورة، حزناً لا يقف على حدود البكاء, إنه التحدي, بل أكثر من ذلك , إنه شيء يشبه استرداد الساق المبتورة !
لقد خرجتُ إلى شوارع غزة.شوارع يملؤها ضوء الشمس الساطع.
لقد قالوا لي : إن نادية فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق أخوتها الصغار تحميهم من القنابل واللهب، وقد أنشبا أظفارهما في الدار.كانت نادية تستطيع أن تنجو بنفسها .. أن تهرب .. أن تنقذ ساقها, لكنها لم تفعل.لماذا؟
لا، يا صديقي، لن آتي إلى "كاليفورنيا"، وأنا لست آسفاً البتة. هذا الشعور الغامض الذي أحسسته وأنت تغادر غزة.. هذا الشعور الصغير يجب أن ينهض عملاقاً في أعماقك، يجب أن تبحث عنه كي تجد نفسك،،هنا بين أنقاض الهزيمة.
لن آتي إليك..بل عد أنت إلينا.عد لتتعلم من ساق نادية المبتورة ما الحياة؟ وما قيمة الوجود؟
عُـد يا صديقي .. فكلنا ننتظرك .

 غسان كنفاني

IP