الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

رفيقي صبح الجيز

يحكى أنه في فترة منتصف السبعينات وفي العاصمة اللبنانية البحرية بيروت كان هناك شاب فقير يعشق الموسيقى، تعلم هذا الشاب على آلة البيانو ودرسها جيدا حتى أتقنها، وخلال دراسته لهذه الآلة تعلق الموسيقي الشاب تدريجيا بموسيقى الجاز، التي كانت قد بدأت إلى الظهور حديثا في لبنان، وهي النوع الموسيقي الذي أبدعه السود الزنوج في أميركا ليناهضوا وينافسوا بها موسيقى السيمفوني والتي كانت حكرا على الطبقة الأرستقراطية، وراح هذا الشاب بتعلم فنون الجاز واللعب على أوتارها حتى باتت موسيقاه المفضلة.
ولكن الأيام تمضي، فمن عادة الأيام أن تمضي دائما دون رجعة، وكانت حالة هذا الشاب تزداد فقرا مع هذه المهنة التي لا تأتي بقوت يومها، ولا بما يسد رمق صاحبها، وكما قال زياد في أغنية مربى الدلال واصفا مهنة الموسيقى (ورتوني المكنسة وطلعت زبال)، وبدأ هذا الشاب بالبحث عن عمل ضمن المجال الوحيد الذي يعرفه وهو العزف على البيانو، وظل يبحث ويبحث إلى أن وجد المهنة المطلوبة، وهي العزف في إحدى مطاعم بيروت الفاخرة والتي لا يقصدها سوى الطبقة المخملية من المجتمع البيروتي، كانت مهنته لا بأس بها من الناحية المادية، فقد كانت تكفي بضع ساعات يعزفها في آخر الليل وأوقات السهرة ليحصل على مدخول جيد يكفيه ويكفي احتياجاته، إلا أن مشكلة صغيرة كانت تؤثر في قلبه كل يوم عند ذهابه للعزف في المطعم وهي أن مدير المكان طلب منه أن يمتنع عن عزف أي من مقطوعات الجاز فهي لا تناسب ذوق الطبقة المتواجدة، بل كان يجب عليه أن يعزف الألحان السيمفونية الشهيرة، ولكن هذه المشكلة لم تكن عائقا في وجهه ليقدم الأعمال السيمفونية بطريقته الخاصة والتي حازت مع الأيام على رضا جميع الزبائن، فالموسيقى بالنهاية فن له مئات الوجوه، وهو ليس عملا سياسيا.
تبدأ فترة العزف في المطعم مع بداية السهرة اليومية، حيث يصل صاحبنا إلى هناك في موعد دوامه المحدد ليجلس في صدر الصالة بثيابه الأنيقة والتي اشتراها على حساب المطعم، ويستمر في العزف حتى أواخر الليل، وبعد أن يثمل جميع الحاضرين، ويشارف المطعم على الإغلاق، يأخذ أجرته ويقفل عائدا إلى منزله سيرا على الأقدام.


في إحدى الليالي كان الليل مقمرا وجميلا والسكون يلف الحارات البيروتية كلها في عمق الليل… مر صاحبنا الموسيقي من إحدى الزواريب وصادف هناك (زبالا) شابا يجلس على الرصيف ويقرأ أحد الكتب المرمية في القمامة، أثاره المنظر وأدهشه، ولم يستطع إلا أن يقف ويلقي التحية على هذا الزبال، ودار بينهما أول حديث، تعرفا من خلاله على بعضهما البعض ونشأت بينهما علاقة ثقافية غريبة، فلكل منهما مهنة غريبة قد لا تدعو إلى الفخر ولكنها شريفة، خاصة أنهما يحيطانها بأدمغة مثقفة كل على حسب قدرته.
اعتاد الشاب على زيارة هذا الزبال في كل ليلة، واعتاد الزبال على أحاديث الشاب الطريفة عن أبناء الطبقة المخملية التي يقضي وقته كل ليلة بينهم، ومع الأيام عرف الشاب أن هذا الزبال ما هو إلا مناضل صغير أخطأ القدر في وضعه بالمكان الصحيح، فهو شاب طموح شيوعي، انتسب إلى الحزب الشيوعي بعد دراية وثقافة وخبرة، ولم يكن انتسابه عبثا، ربما أعياه الفقر ولكن قضيته أهم عنده من أن ينشغل بالإعياء.
هذا هو (صبحي الجيز) زبال الحارات البيروتية.
وأيضا كانت الأيام تمضي ولكنها هذه المرة كانت تحمل معها مستقبلا آخر، أصبح الصديقان أكثر قربا وأدرى بهموم أحدهما للآخر، وراح صبحي الجيز يحدث الشاب عن الحزب الشيوعي، وبدأ الشاب يقتنع بأفكار الحزب، ويقصد صاحبه كل ليلة من أجل أن يسمع ويتعلم أكثر، ورغم أن مصادرهما كانت أغلبها من الكتب المرمية في سلال القمامة إلا أنها كانت تفتح لهما أبوابا للنقاش لا تنتهي.
أصبح الشاب يتخذ من صاحبه (صبحي الجيز) مثلا أعلى في النضال والثقافة، وبدأ يتقرب من الحزب الشيوعي أكثر فأكثر، وهو يزداد قناعة بأن الفقراء ليسوا حثالة المجتمع كما تعود أن يعاملوه في مطعمه الفاخر، وأنه صاحب قرار ورسالة، وأن الكادحين هم أسياد المجتمع، وهم بناة الأمة… أفكار كثيرة بدأت تملأ صدره بالثورة على الظلم والفساد والإقطاع، على هؤلاء الكذبة الذين يجلسون كل ليلة ليتفاخروا بالسخافات، وأمام مساعدات صبحي الجيز له ليتقدم وينتسب إلى عضوية الحزب الشيوعي وليصبح (رفيقا) من رفاق الكادحين والثوار، قرر الشاب أن يتقدم بهذه الخطوة العظيمة، على يد الرفيق صبحي الجيز، والذي كان منذ البداية يرفض إلا أن يناديه (الرفيق صبحي).
وبالفعل خرج الشاب في إحدى ليالي الشتاء الباردة قاصدا مطعمه الدافئ والفخم، ليقدم وصلته الموسيقية السيمفونية المعتادة أمام أسياد وسيدات الطبقة البرجوازية، ولكنه قبل ذلك قرر أن يعرج إلى الحارة التي ينام فيها (الرفيق صبحي الجيز) من أجل أن يخبره بسعادة غامرة عن اتخاذه القرار النهائي، وأنه قرر أخيرا وعن كامل قناعة وهو متسلح بكل أشكال الثقافة أن يصبح (رفيقا) في الحزب الشيوعي مع رفاقه الكادحين والثوار الأبطال… وعندما وصل في عتمة ذلك الليل البارد إلى رصيف صبحي…
وجده مسجيا على الأرض بين أكوام النفايات والقمامة والزبالة، معانقا مكنسته وقد غفا الغفوة الأخيرة بجوار صندوقه…
مات (صبحي الجيز)…
مات (الرفيق صبحي الجيز)…
قتله البرد البيروتي… ورماه بين أكوام الزبالة والقمامة…
- … استيقظ يا صبحي،،، عفوا… استيقظ يا رفيق صبحي… اليوم أصبحت رفيقك، لا تتركني وتمضي… هذه عادة الأيام وليست عادتك… قم يا رفيق، فأنا بدونك لست أدري ما سأفعل…
ولكن…
وداعا رفيق صبحي… وداعا…
أمطرت بيروت نشوة… وأمطرت عيناه في ذات اللحظة قهرا…
اتجه إلى مطعمه الدافئ والبرد يسكن في شرايينه، دخل إلى الصالة المخملية، واتجه إلى الصدر حيث ينتظره البيانو…
سمع التصفيق البارد والمعتاد…
كفاكم برودا… فالبرد قتل صديقي…
……………………………………. ورفيقي صبحي الجيز.
وضع أصابعه على البيانو… وبضمير ثائر… بدأ يعزف لهم ولأول مرة لحنا من موسيقى الجاز… فزع صاحب المطعم واقترب إليه ليخبره بأن هذا النوع الموسيقي محرم هنا وممنوع بكل المقاييس…
ولكنه رفض أن يستمع له…. واستمر ينقر أعصاب الحضور بموسيقى الجاز، فاستشاط المدير غضبا واقترب منه وقال له: “بس يا كلب، خلصنا بقى”.
ولكنه لم يكترث لهذا الخادم العبد الذليل،واستمر يعزف…
هنا… نهضت إحدى جميلات المجتمع وقالت له موبخة بلهجة مليئة بالاستعباد والفوقية:
“يعني هلأ إنتا شو قصتك؟؟”
نظر إليها وهو مايزال يعزف وقال:
“رفيقي صبحي الجيز
تركني ع الأرض وراح
رفيقي صبحي الجيز
حط المكنسة وراح… راح
ما قالي شو بقدر أعمل لملايين المساكين
رفيق يا رفيق
وينك يا رفيق؟
حملتني إشيا كتيرة
حجار وغبرة وصناديق
غيرتلي اسمي الماضي
عملتلي اسمي (رفيق)
(رفيق) وما عندي رفيق
ورح يبقى اسمي رفيق
عم فتش ع واحد غيرك
عم فتش ع واحد متلك
يمشي…
يمشي… بمشي
نمشي ومنكفي الطريق
نمشي ومنكفي الطريق
نمشي ومنكفي الطريق
…………… يا رفيق !

IP