السبت، 7 يوليو 2012

الحنين


الحنين، استرجاعٌ للفصْل الأجملِ في الحكاية: الفصل الأوّل المُرتجَل بكفاءة البديهة.
هكذا يُولدُ الحنينُ من كلّ حادثةٍ جميلة، ولا يُولدُ من جُرْح. فليس الحنينُ ذكرى، بل هو ما يُنتقى من متحف الذاكرة. الحنينُ انتقائيٌّ كبُستانيٍّ ماهر، وهو تكرارٌ للذكرى وقد صُفِّيَتْ من الشوائب. وللحنين أعراضٌ جانبيّةٌ من بينها: إدمانُ الخيالِ النظرَ إلى الوراء، والحَرَجُ من رَفع الكُلفة مع الممكن، والإفراطُ في تحويل الحاضر إلى ماضٍ، حتى في الحُبّ: تعالي معي لنصنعَ الليلةَ ماضياً مُشترَكاً – يقولُ المريضُ بالحنين. سآتي معكَ لنصنعَ غداً مُشترَكاً – تقولُ المُصابَةُ بالحُبّ. هي لا تحبّ الماضي وتريدُ نسيانَ الحرب التي انتهتْ. وهو يخافُ الغدَ لأنّ الحربَ لم تنتهِ، ولأنه لا يريدُ أن يكبرَ أكثرَ.
الحنينُ ندبةٌ في القلب، وبصمة بلدٍ على جسد. لكن لا أحد يحنُّ إلى جُرْحه، لا أحد يحنّ إلى وجعٍ أو كابوس، بل يحنّ إلى ما قبْله، إلى زمنٍ لا ألم فيه سوى ألم الملذّاتِ الأولى التي تذوّبُ الوقتَ كقطعةِ سُكّر في فنجان شاي، إلى زمنٍ فردوسيّ الصورة. والحنينُ نداءُ الناي للناي لترميم الجهةِ التي كسرتْها حوافرُ الخيل في حَمْلةٍ عسكريّة. هو المرَضُ المُتقطِّعُ الذي لا يُعْدي ولا يُميتُ، حتى لو اتّخذ شكلَ الوَباءِ الجمعيّ. هو دعوةٌ للسهر مع الوحيد، وذريعةُ العَجْز عن المُساواةِ مع رُكّاب قطارٍ يعرفون عناوينَهم جيّداً. وهو ما يُجمَعُ لأحلام الغرباء من موادّ مصنوعةٍ من شفافيّة اللاشيء الجميل، ويُحمِّصُ لهم بُنّ اليقظة.
ونادراً ما يأتي صباحاً. ونادراً ما يتدخّلُ في حديثٍ عابرٍ مع سائق تاكسي. ونادراً ما يتطفّلُ على قاعةِ مُؤتمر، أو على الموعدِ الأوّل بين أنثى وذكَر ... هو زائرُ المساء، حين تبحثُ عن آثاركَ في ما حولكَ ولا تجدها، حين يحطُّ على الشُرْفةِ دُوريٌّ يبدو لكَ أنه رسالةٌ من بلدٍ لم تحبّه وأنتَ فيه، كما تحبّه الآن وهو فيك. كان مُعطىً وشجرة وصخرة، وصار عناوين روح وفكرة، وجمرة في اللغة. كان هواءً وتراباً وماءً، وصار إلى قصيدة.
الحنينُ أنينُ الحقّ العاجز عن الإتيانِ بالبُرهان على قوّة الحقّ أمام حقّ القوّة المُتمادية... أنينُ البيوتِ المدفونة تحت المُستعمَرات، يُورِثُهُ الغائبُ للغائب، والحاضرُ للغائب، مع قطرة الحليب الأولى، في المَهاجر والمُخيّمات. الحنينُ صوتُ الحرير الصّاعدِ من التوت إلى مَنْ يحنُّ إليه في أنينٍ متبادَل. هو اندماجُ الغريزةِ بالوعي وباللاوعي.. وشكوى الزمن المفقود من ساديّة الحاضر.
الحنينُ وجَعٌ لا يحنُّ إلى وجع. هو الوجعُ الذي يُسبّبه الهواءُ النقيُّ القادمُ من أعالي جبلٍ بعيد، وجعُ البحث عن فرَحٍ سابق. لكنه وجعٌ من نوعٍ صحّيٍّ، لأنهُ يُذكّرُنا بأننا مرضى بالأمل ... وعاطفيّون!
من كتاب: في حضرة الغياب

IP